عندما شكانا الرسول إلى ربه

 

في مشهد قرآني بليغ تقشعر له الأبدان يصور لنا القرآن في سورة الفرقان وقفةً للرسول بين يدي ربه يوم القيامة شاكياً. و لكن من يشكو الرسول في مثل هذا اليوم الجليل و هو الذي تحّمل من قومه ما تحّمل؟ و لمَ انتظر الرسول إلى يوم القيامة ليبوح بما ضاق صدره به؟ في الآية 30 من سورة الفرقان نقرأ: 

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا

انتظر الرسول يوم القيامة ليقف بين يدي ربه شاكياً.ممن يشتكي و لمَ؟ و هو الذي اعتاد الإستغفار حتى للمنافقين من قومه حتى قيل له في الآية 80 من سورة التوبة

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ

أيعقل أن يشكونا الرسول عند ربه؟ فالرسول أنهى رحلة النبوة بالدعاء لقومه لا بالدعاء عليهم.حتى عندما حوصر و حورب و خُيّر في هلاكهم أبى إلا أن يضمد جراح تكذيبهم بفيض من رحمته و صبره . و لو كان أسفه لشئ بدر ممن عاصره من قومه لما كتمه ليوم القيامة بل لدُوّن في الكتاب قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة! و هو المعلم و المصلح و المبلّغ الذي ما كتم شيئاً فيه تبليغ للرساله.لابد أن في الامر لبساً و لا ريب.فالحناجرتصدح بقراءة القرآن في كل مكان. والمسلمون يحتفون بتلاوته في الجُمع و الجنازات و الموالد. والصائمون يتنافسون لتحصيل أكبر عدد من الختمات قبل أفول الشهر الكريم. ودوراتُ تجويد و تحفيظ القرآن زاهرةٌ في كل مسجد. و مسابقاتُ حفظ القرآن  تتطاول في إغداق الجوائز على المتنافسين حول العالم.حتى مواقع التواصل الإجتماعي تتهافت على تضمين محتواها آيات الذكر الحكيم.

  و يزيغ البصر و تبلغ القلوب الحناجر لإستحضار الفكرة. قد يكون هجراً لا ككل هجر. أيعقل أن نكون نحن المعنيين بهذا الهجر؟ فلا مناص إذن من وقفة مع الذات و لا بد من الإعتذار إعتذاراً يليق بمقام الرسول قبل فوات الاوان. نعم لقد هجرنا القرآن. قرأنا القرآن و لم نطبق تعاليمه. تلونا آياته و لم نتدبرها. حرّمنا التفكّر في معانيه. حوّلنا الخطاب القرآني الحي إلى موروث جامد.استبدلنا التفاعل مع أحكامه بالترنم على صوت منشديه. كفّرنا كلّ من يُعمِل عقله في معانيه و رميناه بالإلحاد و الزندقة و الهرطقه. لاحقنا القائلين بالقرآن و ناكفنا الآيات بالحديث و إن كان موضوعا. ادّعينا السمع و الطاعة و عطّلنا مضمون ما لا يروق لنا بدعاوي النسخ و التبديل.

حين قال القرآن (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)(النحل: 98) قلنا بأن أحكام الإسلام أكثر من أن تضمها دفتي كتاب الله المنزل. و حين قال القرآن (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر)ٍ  (القمر: 17) قلنا بأن القرآن أصعب و أعقد من أن يُفهم بلا سُنّةٍ تفسره. و حين قال القرآن (وَهَـٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ ) ( الأحقاف: 12) قلنا بأن الأمة ستنقسم إلى طوائف و ملل و نحل و لا ينجو منها إلا من شاكل هوانا. و حين قال القرآن ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ( البقرة: 256) قلنا ما للمرتد عندنا إلا القتل.و حين قال القرآن (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (المائدة: 69) وصفنا الآخر أيا كان بالمغضوب عليهم والضالين.

الكتاب الوحيد الذي يُتعبّد بقراءته شرط ان يُقرأ بلا فهم و يُردد بلا تطبيق ويُرتّل بلا تفكّر أو تدبّر هو القرآن و أي هجر بعد هذا الهجر! فلك منا الإعتذار يا رسول الله اعتذاراً يليق بكبير مقامك و عظيم شأنك حتى قيام الساعة و لك العتبى حتى ترضى.ولا حول و لا قوة إلا بالله. و الله أعلم. 

للمزيد يمكن مراجعة كتابي الأكاديمي المنشور في بريطانيا

The Qur’anic Dilemma: A Hermeneutical Investigation of al-Khidr (Routledge Studies in Islam and Human Rights)

https://www.amazon.com/Quranic-Dilemma-Hermeneutical-Investigation-Routledge/dp/103238431X/ref=tmm_pap_swatch_0?_encoding=UTF8&dib_tag=AUTHOR&dib=eyJ2IjoiMSJ9.D0ws_LPTHq6TqYop0g_ZzC_mTf3pRVUn1DwB4QJxdu3GjHj071QN20LucGBJIEps.voUIexhP84Zye1fYRRfBpT0EImaZFlYUhmj4hXT88Vs&qid=&sr=

Previous
Previous

 رحم الله (الإجتهاد) في بلادنا و أسكنه فسيح جنانه

Next
Next

  الشاكين الله كثيراً و الشاكيات