فتاوى منتهية الصلاحية
تتصل إحدى المشاهدات على برنامج (اطبخ معنا) على القناة الأولى و تشتكي للشيف الضيف مشكلة عدم استواء الكيك من الداخل و يأتي الجواب واضحا وسريعا إذ يقدم الشيف نصيحة لا تتجاوز الدقائق. في برنامج القناة الثانية الطبي (صحتك بالدنيا). يتكرر المشهد. هذه المرة يسأل المريض عن أعراض لازمته لفترة و يسارع الطبيب الإستشاري الخبير ضيف حلقة اليوم بإسداء النصيحة. لكن القناة الثالثة كانت قد استضافت فضيلته اليوم في برنامج ( طريق الجنان). تتصل المشاهدة الاولى و تشتكي ظلم زوجها الذي هجرها بعد طول العشرة و تزوج بمن صار يمضي عندها معظم يومه. يوصيها الشيخ بالصبر و يذكّرها بشرعية التعدد و يوصي الزوج الغائب و -الذي لا و لن يستمع إلى المكالمة على الأغلب- بالعدل بين زوجاته. يتلقى البرنامج المكالمة الثانية من الزوج التي دخل عش الزوجية ليجد نفسه وجها لوجه في دوامة من المكائد النسائيه التي شُنّت برعايةٍ من الأم المكلومة بزواج الإبن. و يبدو أن الحماة البائسة و التي ظنت أن تضحياتها بعمرها و مهنتها و طموحاتها و إفناء عمرها في تربيتها للإبن ستبقيه ملك يمينها للأبد لم تستطع أن تدرأ عن ابنها- مشروع العمر- كابوس محبة زوجته . و لذلك قررت و كالكثير من الأمهات إعلان حرب العقوق المعروفة للجميع في بلادنا! يوصي الشيخ الإبن كالعادة ببر أمه مهما بدر منها ويوصيه بضرورة عدم إظهار محبته لزوجته أمام الأم الغيور. و كأن المحبة بين الأزواج نقيصة أو عيب لا بد من درئه أوتجنبه أو حتى إخفاءه. المكالمة الثالثة تأتي من صوت مقهور يشتكي أذى إخوة يوسف. يهمهم الشيخ و يردد توصياته المتوقعة بدوام الصبروالإصرارعلى الصلة لا بل ويوصي بالدعاء لهم بالصلاح و يتوعد من قطيعة الرحم. و تنتهي حلقة جديدة من مسلسل الفتاوى المنتهية الصلاحية بالدعاء لفضيلته بطول العمر و دوام تشريف البرنامج. تمضي الحلقة بنفس الخواء و الفراغ الذي بدأت به. و تتركك قائمة النصائح الجديدة القديمة من جديد في صراع مع أبجديات المنطق الغائب في مثل هذه الفتاوى التي لا تحل مشكلة عالقة و لا تروي ظمأ سائل و لا تفيد حتى المشاهد الحيادي. فأين هي المشكلة و أين هو الحل؟
المشكلة تختصر في أن ضيف الحلقة -وهو على الأغلب من أصحاب الوجاهة الدينية- مشغول بحل مشاكله لا بحل مشاكل المشاهد. و منهمك في إعلان شأنه الملائكي بين الناس و إن كان ذلك عن طريق التأكيد على دونية و بشرية من يتصل. هو مُستهلكٌ بإصلاح حياته و إن كان ذلك على حساب خراب حياة من استأمنه المشورة. ضيف الحلقة و كالعادة مهتم بتلميع صورته الجماهيرية أكثر من اهتمامه بإصلاح حياة المبتلين من المتصلين. لذلك تأتي الفتاوي مبتورة الصلة بالواقع و منتهية الصلاحية بل وعاجزة عن إصلاح مكسور أو تهوين مصاب فائت أوحتى دفع مكروه قادم. رجل الدين -إلا من رحم ربي- مشغول بك عنك. منهمك بإعلاء أبراجه وإن كان ذلك على حساب هدم ما تبقى من بيتك. مصرٌّ على إعطاءك جرعة مفرطة من الدواء مغرقة في مثالية لا تستطيع معها إلا أن تشعر بالذنب لبشريتك و الإضمحلال لواقعيتك. رجل الدين -إلا من أتقى الله – يبشرك بما لا ينتظره و يفتيك بما لا ينفعه و يصّبرك على ما لا يعبأ هو به. خلق الهيلمان الديني أهم من قول كلمة الحق . وهيبة الكهنوت أجلّ من ملاحقة مصالح العباد. والقول بالمأثورو إن بطل مفعوله أضمن من الدخول في دوامة الإجتهاد او إعمال العقل و العياذ بالله. و دوام الوصاية الدينية بل و ضمان عودة المبتلين إلى طرق باب الإستشارات أبدى من حل المشاكل. فصلابة صرح المعبد مقدم على فتح موصد الأبواب لقاصدي العلم ممن لا تحمد عقبى استقلالهم بالتفكير. من شقوة رجال الدين -إلا من رحم ربي- الإفتاء بما يصلح دنياهم لا ما يصلح دنيانا. وهذا و إن كان دين و ديدن برامج الفتاوى المجانية فالويل كل الويل لمن يشكك في المفعول السحري غير مقيد الصلاحية للفتاوى منتهية الصلاحية
و الله أعلم