ما لا نعرفه عن أيوب عليه السلام

  

لا صبر إلا صبر أيوب! مدحه القرآن الكريم و أثنى عليه ووصفه بالأواب لكثرة رجوعه إلى الله. و يذكر القرآن في موضعين شكوى أيوب و مناجاته لربه. ففي الآية 83 من سورة الانبياء نقرأ

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّى مَسَّنِىَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ

و في الآية 41 من سورة ص نقرأ

وَٱذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّى مَسَّنِىَ ٱلشَّيْطَـٰنُ بِنُصْبٍۢ وَعَذَابٍ

و التفكر في الآيتين يبين أن القرآن لم يكن يكرر نفس المشهد و القرآن البليغ منزه عن التكرار و الذي لا يليق و العياذ بالله بعظمة و إتقان الأسلوب البياني القرآني. و ما قال القائلون بالتكرار في القرآن إلا لقلة حيلتهم و تقصيرهم في واجب التفكر و التدبر. و لا علم لنا إلا ما علمنا الله. فما الفرق بين المشهدين القرآنيين؟

في اجتهاد سابق كنت قد أشرت إلى مجموعة من الملاحظات التي تؤكد على الفرق بين الآيتين

أولا: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّى مَسَّنِىَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ

في سورة الأنبياء يشتكي أيوب إلى الله أن مسه الضر. و أيوب هنا لا يشتكي الله بل يشتكي إلى الله و هو الملاذ و الملجأ في كل بلوى و شكوى. و لا يفصح القرآن عما أصاب أيوب و في هذا خير و بركه. فكل ما يسميه العبد ضرا ،صغر كان أو كبر ،موجب للإلتجاء لله و لو حدد القرآن بلاء أيوب و الله به أعلم لإستهان البعض أو الكل بما يصيبهم و لما تجرأ أحد على الشكوى من هم أو غم يصيبه. فالبلاء الذي أصاب أيوب كان بلاء عظيما و لا ريب. و القرآن يسكت عن التفاصيل لا نسيانا أو إهمالا -و العياذ بالله- بل ليترك باب الإنتفاع به مفتوحا لكل من يطرقه. و قد استفاضت كتب التفاسير و المرويات و الإسرائيليات في شرح قصة أيوب و التفاصيل لا تضيف إلى من يتخذ القرآن كتابا للتعبد شيئا بل تروي ظمأ المتشوقين إلى الإمتاع القصصي لا أكثر. و الخلاصة أن أيوب النبي الصابر المصطفى و الله لا يصطفي إلا خير عباده أصابه ضر جلل و كان هذا المصاب شديد الوطأة حتى إنتهى بأيوب إلى الإلتجاء إلى الله. و يستجيب القرآن و يؤكد على سرعة الإستجابه إذ نقرأ ( فَٱسْتَجَبْنَا لَهُۥ فَكَشَفْنَا مَا بِهِۦ مِن ضُرٍّ) في الآية 84. و مع كشف الضر أيا كان بركة أخرى يضيفها القرآن (وَءَاتَيْنَـٰهُ أَهْلَهُۥ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ). و الملاحظ ان القرآن يؤكد أولا على كشف الضر و يأتي بعد ذلك بالهبة التي أعطاها أيوب و هي الأهل. و في هذا دليل على أن وهبه الأهل جاء زيادة على كشف الضر و ليس جزءا منه. و في هذا تأكيد على أن فقد الأهل لم يكن الضر الذي أشار إليه أيوب و في هذا تناقض مع المرويات و تشكيك في صحة ما نقل إلينا. و ينهي القرآن المشهد بالإشارة إلى أن ما حدث كان رحمةً من عند الله و درسا و موعظة للعابدين

ثانيا:وَٱذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّى مَسَّنِىَ ٱلشَّيْطَـٰنُ بِنُصْبٍۢ وَعَذَابٍ

 في سورة ص نجد أيوب محددا الشكوى. ففي هذه المره لا يشتكي أيوب الضر بل يشتكي من الشيطان و الذي أصابه بالنصب و العذاب. و الآية لا تكرر المشهد السابق. فأيوب في سورة الأنبياء يشتكي ضرا لحق به أيا كان هذا الضر. أما هذه المره فهو يشتكي الشيطان . و الشيطان عاجز عن إلحاق الضر بالإنسان بل هو أضعف و أهون من ذلك و كما يؤكد القرآن في عدة مواضع. و في القول بأن الشيطان تسبب لأيوب بفقدان الولد أو المرض أو الخسارة جرأة على الله و كفر بوحدانية ربوبيته ونسب قدرات لا يقدر عليها إلا الله إلى الشيطان. فالمسبب الوحيد هو الله و هو وحده القادر على النفع و الضرر.و لا يمكن الإحتجاج كذلك بأن الشيطان إرتقى إلى السماء طالبا الإذن من الله لإلحاق الضر بأيوب. فالشيطان مبعد عن الملأ الاعلى مذ طُرد إبليس من الجنه. و قد اعترض الكثير من المفسرين على سطحية التفاسير القائلة بالشيطان بوصفه فاعلا في القصة. فالقرطبي و ابن عاشور على سبيل المثال أشارا إلى أذىً لا يتجاوز الوسوسة بوصفه موضوع شكوى أيوب في سورة ص. فالشيطان و على ما يبدو أرهق أيوب الصابر بالوساوس و المخاوف و حتى التساؤلات عن سبب ابتلاءه. و هذا قدر مشترك لأصحاب البلاء. فأيوب و ككل من أصابه بلاء كان محاصرا بوساوس الشيطان و التي أرهقته إلى الدرجة التي كان لابد له من الإلتجاء إلى الله ليخمد نيرانها. فأيوب في سورة ص إذن لا يشتكي من نفس البلوى و المشهد ليس تكرارا لسورة الأنبياء بل هو شكوى جديدة. هذه المره أيوب يشتكي الآثار النفسيه التي خلفتها المصائب في قلبه. يشتكي الشيطان و ما يبثه فيه من أفكار سلبيه. يشتكي ما يشتكي منه كل أصحاب البلاء في الدنيا . فالرضا بما قدر الله لا يترك للحزن مستقرا في القلب و إن اشتد البلاء و لكنها وساوس الشيطان و التسخط من قضاء الله و قدره ما تُحيل الحياة جحيما وإن طابت. أيوب في هذا المشهد يشكو إلى الله الضغط النفسي و الإرهاق العصبي الذي ظل الشيطان يلاحقه بهما دون كلل او تعب. و على خلاف سورة الأنبياء لا يأتي الفرج و كشف الكربة كاستجابة مباشرة لتقبل الدعاء بل يذكر القرآن مجموعة من النصائح التي أوحيت لأيوب و منها الركض بالرجل و التشافي بالماء البارد. و في هذه التوصيات باب لابد للعلاج النفسي من أن يطرقه. و لعل هذه الكلمات الموجزة تفتح على الباحثين بركات من كتاب ما أُنزل إلا رحمة للعالمين. و يتبع القرآن هذه التوصيات بالتأكيد عليها بوصفها رحمة ليس من عند الله كما نقرأ في سورة الانبياء بل رحمة من الله نفسه فهو الفاعل المباشر و لا حول و لا قوة للشيطان و لا لأي كان إلا بإذن من الله. المشهد في سورة ص يُختتم بالتأكيد على أن في هذه التوصيات ذكرى لأولي الالباب و ليس للعابدين كما نقرأ في سورة الانبياء . و في هذا التفريق تأكيد آخر على أن القرآن يقدم لنا مشهدين مختلفين و ليس تكرارا لمشهد واحد. فتفريج الضر جاء في سورة الانبياء نتيجة لدعاء و عبادة و يقين أيوب و في هذا عبرة للعابدين و الذين لابد لهم من طرق باب الله لتفريج الكروب. و لكن الدرس في سورة ص و على خلاف سورة الانبياء موعظة و ذكرى لكل أولي الألباب مؤمنين كانوا او غير مؤمنين. و ذلك لأن أيوب هنا كان يشتكي التوتر النفسي الذي سببه له الشيطان. و في القائمة التي جاء بها القرآن و التي تشمل و كما أشرنا الركض بالرجل (و فيه إشارة إلى الرياضة) و الإستشفاء بالماء البارد وصفة طبية متكاملة تنفع أصحاب البلاء و المصابين بالامراض النفسية مؤمنين كانوا او غير مؤمنين. و الله أعلم. أختم هذا الإجتهاد بالتنويه إلى ضرورة الإبتعاد عن الثقة العمياء بالمرويات و التي أشارت إلى ينبوع تفجر بمعجزة ليغتسل و يشرب منه أيوب و كان فيها شفاؤه وهو مما لا يؤكده القرآن و الله اعلم

للمزيد يمكن مراجعة كتابي الاكاديمي المنشور في أمريكا

On Pain and Suffering: A Qur'anic Perspective (Lexington Studies in Islamic Thought) Paperback – April 8, 2024

https://www.amazon.com/Pain-Suffering-Quranic-Perspective-Lexington/dp/1793650071/ref=tmm_pap_swatch_0?_encoding=UTF8&qid=&sr=

24

Previous
Previous

عذاب الآخرة أم العذاب بلا آخرة

Next
Next

ماذا يقول القرآن عن الحجاب؟