كيف أكد القرآن على نبوة السيدة مريم

من المعروف أن علماء كبار من وزن أبو الحسن الأشعري والقرطبي وابن حزم الأندلسي ذهبوا إلى القول بنبوة السيدة مريم. و على الرغم من ذلك ظل هذا الرأي غريباً بل و مستهجناً و مرفوضاً من الأغلبية و حتى وقتنا الحاضر. رأي الأغلبية يستند بلا شك على رفض قبول المرأة وهي الضلع الأعوج و ناقصة العقل و الدين كما تزعم المرويات بوصفها نموذجاً للكمال البشري. و أي كمال أسمى من كمال النبوة. الإنتقال في الوعي الجمعي بين التصورين شديد الوطأة بلا ريب. قرون طويلة عقيمة من إحتقار المرأة و امتهانها قولا و فعلاً تفصل بيننا و بين القول بالمرأة كنبية. و لكن القرآن يقول غير ذلك. و لنمض في هذه العجالة في طريق تقص بعض الدلائل القرآنية و التي تؤكد بمجملها بما لا يقبل الشك على نبوة مريم.

أولا: لا بد من التمييز بين النبوة و الرسالة. مريم عليها السلام كانت نبية غير مرسلة و على عكس ابنها السيد المسيح عليه السلام و الذي كان نبيا مرسلا. فالرسالة لا تكون إلا للرجال.كما نقرأ في سورة النحل في الآية 43 .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

فالرسالة و التبليغ و ما تتطلبه من مهام ينوء بها حتى أصحاب الهمم من الرجال لم تُطلب من النساء و هذا من رفق الله و رحمته بهن.

ثانياً: كلمت السيدة مريم الملائكة و على عادة كل الأنبياء. فما المانع من القول بها نبيةً إن كانت مخاطبة الملائكة أحد شروط و لوازم النبوة.في سورة آل عمران نقرأ في الآية 45

إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ

ثالثاً: وثّق القرآن لقاء جبريل و هو الملك المختص بالوحي و الذي أرسله الله للقاء النبي محمد (ص) بمريم. و لو تكن نبيه لوكل الله امر التواصل معها لملك غير ملك الوحي. يأتي هذا التأكيد في سورة مريم في الآية 17

فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا

رابعاً: من سنة الله في خلقه تأييد الانبياء بالمعجزات و تغيير نواميس الكون على أيديهم. و هو ما يؤكده القرآن كذلك في قصة مريم. فمريم و كما يذكر القرآن كانت ترزق و هي في محرابها. الأمر الذي دفع زكريا للتعجب و الذهول إذ قال في سورة آأل عمران في الآية 37 

كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ

و قد اختلف العلماء في هذا الرزق و ذهب البعض إلى انها كانت تُرزق فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف و هو مما لا يمكن تأكيده في القرآن. و لكن الواضح هو الإعجاز في رزق مريم و ما عدا ذلك تفصيل لا يمت إلى نبوة مريم بصلة.  

خامساً:  التكرار المقصود في الآية 42 من سورة آل عمران

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ

 

 و قد اختلف العلماء و المفسرون في تأويل هذا التكرار و لي في تفسير هذا التكرار بحث طويل أناقش فيه الأخطاء التي وقعت فيها أغلب التفاسير في محاولة فهم سبب التكرار. فالتكرار في قول (اصطفاك) بلا سبب لا يليق بالقرآن. وحاشى لكتاب عظيم مثل القرآن أن يأتي بالتكرار بلا جدوى. إن تأملنا الآية السابقة وجدنا ان كلمة ( اصطفاك) الأولى وردت مرسلة في حين كلمة ( اصطفاك) الثانية جاءت مقيدة و محددة بالإصطفاء على نساء العالمين. و في هذه الملاحظة اللغوية الدقيقة مفتاح حل اللغز القرآني. فقد اصطفى الله مريم و فضلها مرتين لا مرة واحدة. أو لنقل اصطفاها لسببين: الإصطفاء الأول مرسل. فهي مصطفاة كسائر البشر المصطفين. في هذا الإرسال تأكيد على مشاركتها المرتبة التي يحتلها أي بشر مصطفى. أي الأنبياء. فكما يؤكد القرآن اصطفى الله مريم كما اصطفى أنبياءة. فمريم نبية مساوية في درجة اصطفائها سائر الأنبياء إذن. و لكن القرآن لا يتوقف عند هذه الرتبة التي تتشارك فيها مريم مع سائر الأنبياء. بل يضيف درجة أخرى من الإصطفاء. هذه المرة الإصطفاء محدد بالتفضيل على جميع نساء العالمين. فمريم و هي المرأة الوحيدة في العالم و التي ستكرم بمعجزة حمل وولادة كلمة الله المسيح كانت و ستظل باعتراف القرآن أفضل امرأة على الإطلاق. فمريم إذن من حيث هي نبية هي نبية مساوية في درجة التفضيل لكل الأنبياء و هذا أقل ما يمكن أن يقال بحقها. بالإضافة إلى ذلك مريم من حيث هي امرأة هي الأفضل من بين كل نساء العالم. و بتعبير آخر مجمل: مريم كنبيه مساوية لكل الأنبياء و لا تفضيل لها على أحد منهم. و لكن كإمرأة فقد فضلها الله على كل نساء العالم.

 و من الجدير ذكره هنا هو تعبير ( طهّرك) و الذي يذكره القرآن بين ( اصطفاك) الأولى و ( اصطفاك على نساء العالمين). وهو مما يجب علينا التوقف عنده لتوضيحه. من الواضح ان مريم مرت بمرحلة من التطهير الإلهي. هذا التطهير جاء قبل اصطفائها كأفضل امرأة في العالمين و هو ما تم من خلال إكرامها بحمل المسيح المعجز. و يبدو أن مريم كانت بحاجة لنوع من التهيئة و الإعداد الإلهي لتصبح قادرة على تلقي معجزة مثل معجزة خلق المسيح من غير أب في جسمها. يبقى هذا التطهير لغزاً من ألغاز الخلق و التكوين و لا يمكن لأحد الإدعاء بفهم كنهه و لا علم لنا إلا ما علمنا الله. إلا أن الملفت للإنتباه هو أن مرحلة التطهير جاءت بعد و ليس قبل ذكر ( اصطفاك) الأولى و هي و كما أشرنا ما دل على نبوة مريم. و في هذا تأكيد على أن مريم لم تكن بحاجة إلى تطهير إلهي ليتم اصطفاؤها الأول بوصفها نبية مساوية لسائر الأنبياء. ما احتاجته مريم كان تطهيراً خاصاً جاء مباشرة قبل الإصطفاء التالي ( اصطفاك على نساء العالمين). فالتطهير كان من لوازم معجزة خلق المسيح و لم يكن من لوازم اختيار مريم نبية كسائر الانبياء. بتعبير آخر و كما يؤكد القرآن من خلال الترتيب المعجز لغويا في القول (اصطفاك و طهرك و اصطفاك على نساء العالمين) ليس في المرأة نقص محتاج للتعديل حتى تصبح نبية و ليس فيها نجس محتاج للتطهير حتى تساوي الرجال حتى في أعلى مراتب السمو و الكمال البشري المعروف بالنبوة.

سادساً:     في قصة نذر امرأة عمران لمريم قبل ولادتها لخدمة الله عبرة لأولي الأباب.ففي سورة آل عمران الآية 35 نقرأ عن نذر مريم قبل ولادتها لخدمة المعبد.  

 

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَليم 

إلا ولادة أنثى فاجأت بل و أربكت والدة مريم و قد كانت العادة على تكليف الرجال لا النساء بمهمة خدمة المعبد. في الآية التاليه نقرأ عن ردة فعلها  

 

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( آل عمران 35)

و يأتي الجواب القرآني و الذي أنهى حيرة والدة مريم في الآية36  من نفس السورة

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا

فبخلاف الأعراف و التقاليد و التي حرمت النساء من فضل كفضل خدمة المعبد أتى القرآن بالتأكيد على قبول مريم قبولا حسناً.و في ما نقرأ ثورة قرآنية بلا شك على كل نظام أبوي يحرم المرأة من حق أو شرف وإن توشح بأثواب الدين و إن تذرع بحجج الأعراف و التقاليد. فحياة مريم و تكريمها كان ثورة على المألوف و منذ اللحظة الاولى و في هذا عبرة لنا بل و تفسير للجدل الذي ما زال ذكر مريم يحييه حتى الآن.

سابعاً:  شبهة يذكرها الكثير لابد من التعريج عليها و قبل إغلاق ملف نبوة مريم في القرآن.  يقول البعض مريم و كما يذكر القرآن صديّقة و ليست نبيه. فهل وصف مريم بالصديّقة في القرآن ينفي عنها صفة النبوة؟  

 

ما المسيحُ بنُ مريمَ إلاّ رسولٌ قد خلت مِن قبلهِ الرُّسل، وأمُّهُ صديقةٌ كانا يأكلانِ الطّعامَ

(سورة المائدة 75 )

 

وصف الصدّيق كوصف قرآني لا ينفي وصف النبوة و لا يناقضه بل يؤكده. فالصدّيق قد يكون نبيا بل و يكون نبيا في أغلب الأحوال. فعلى سبيل المثال في سورة مريم  في الآية 41 نقرأ وصف ابراهيم بالنبي و الصديّق

واذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا  

 

فوصف مريم بالصديّقة إذن لا ينفي بل يؤكد كونها نبية في القرآن. فإن كان وصف ابراهيم بالصدّيق لا يقلل من مقامة كنبي فلم لا ينطبق ذلك على مريم! مريم إذن نبيه و في التأكيد القرآني على نبوتها تحدي لتاريخ من الإهمال و التغافل المتعمد حيناً و غير المقصود أحياناً. و ما أجمل أن نتقبلها بقبول حسن اليوم إن كان رب العزة قد فعل ذلك في كتابه. و الله أعلم.

 للمزيد يمكن مراجعة كتابي الأكاديمي المنشور في عام 2019 في أمريكا

 

https://www.amazon.com/Decoding-Egalitarianism-Quran-Retrieving-Lexington/dp/1793609896

 

Previous
Previous

  بلقيس الملكة القرآنية المتوجة

Next
Next

Marriage in the Qur’an: A sacred contract between the three of you!