بلقيس الملكة القرآنية المتوجة
يعود الهدد من رحلته الإستكشافية إلى بلاط النبي سليمان عليه السلام. هذه المرة عاد الهدهد من أرض بعيدة مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ
النمل 22
النبأ يقين لأن الهدهد رآه بأم عينه. في أرض سبأ و كما أخبر الهدهد النبي سليمان إمرأة قوية تحكم قومها لا بل و تملكهم. إلا أنها و قومها
يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ
يقول الهدهد ذلك آسفاً متعجباً في سورة النمل في الآية 24. إلا أن وصف الهدهد لهذه الملكة لا يخلو من الدهاء. إذ قدمها لسليمان في الآية 23 على أنها ملكة
أُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ
لكن هذا الوصف هو بالذات ما ذكره سليمان عن نفسه في قوله في الآية 16 من نفس السورة
وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ
و يظل اختيار نفس التعبير لوصف سليمان و الملكة بلقيس هبة لغوية جديدة للمتدبرين. فإن دل هذا التعبير المشترك على شئ فإنما يدل على علو و رفعة منزلة الملكة بلقيس كملكة و حاكمة في أرضها وإن كانت ما زالت عابدة لغير الله آنذاك. و لا يكتفي القرآن بهذه الإشارة للتأكيد على تساوي الملكة بلقيس مع النبي سليمان في مرتبة الملك لا في مرتبة النبوة. بل تستمر القصة القرآنية في وصف ملكة لا يضاهيها الملوك و الجبابرة في حكمها و عدلها و رجاحة عقلها. فالنبي سليمان و عندما سمع عنها قرر إرسال خطاب إليها يدعوها فيه للإسلام. و الإسلام هنا هو الإسلام القرآني المتمثل بالدعوة إلى توحيد الله. فكل أنبياء الله مسلمون و ليس سليمان باستثناء من القاعدة. الملكة الحكيمة قررت عقد مجلس عاجل لمداولة أمر الخطاب فور وصوله. وهاهي تطلب من مستشاريها الفتوى و تؤكد على الإستشارة كعادة و قانون طالما التزمته في حكمها إذ تقول في الآية 32 من نفس السورة سورة النمل
مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ
فالملكة الديمقراطية معتادة إذن على الشورى دينا و ديدنا في حكمها و ليست هذه هي المرة الأولى التي تلجأ فيها لمشاورة ذوي العلم و الدراية في بلاطها. فالكتاب الذي أرسل إليها من سليمان كتاب كريم كما وصفته و قد ابتدأ بذكر اسم الله. و فيه ضمّن سليمان دعوتها و قومها للإسلام. و يبدو أن مستشاريها و على عادة معظم القادة في العالم فكروا في حل واحد و هو اللجوء إلى القوة. ذكرها مستشاروها بالحل العسكري و حاولوا فرضه عليها بتذكيرهم إياها بقوتهم و بأسهم الشديد. إلا أن الملكة المكلفة بالحكم و الموثوقة الرأي من قبل قومها مالت إلى الحكمة و الروية. و بدل الإذعان لإقتراح شن حربٍ لا تحمد عقباها تلجأ إلى خبرتها الطويلة و درايتها بقوانين السياسه. فالملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة. و لا خير في حل لا يجلب للبلاد إلا الفساد و لا يعود على أهله إلا بالمذلة. و على عكس هذا الإقتراح المباشر تلجأ الملكة إلى دهائها الأنثوي و فطرتها السليمة و تبرهن على إبداع المرأة حيت تُسلّم مقاليد الامور. و تقرر إرسال هدية لسليمان. و الهدية ما هي إلا اختبار دبلوماسي لنوايا هذا القادم الجديد. فإن كان نبيا مخلصا لرسالته و كما يدّعي فلن تغريه الهدية لا بل لن تستميله كل هدايا العالم و لن يثنيه عرضٌ عن المضي فيما تواصل معها بشأنه و هو دعوتها و قومها إلى الإسلام. و إن كان ملكا من ملوك الممالك الساعين و راء عرض الحياة الدنيا و ما اكثرهم فسترضيه الهدية و لربما طلب المزيد. و كما هو متوقع يرفض سليمان الهديه و يقول في الآية 36
قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ
و يقرر سليمان دعوة الملكة إلى بلاطه. و تصل لتجد عرشها بانتظارها وتكشف عن ساقيها حتى لا يتبلَّل رداؤها عندما حاولت عبور أرضية القصر الزجاجية و التي بدت لها كالماء من شدة نقاء الزجاج. و تدرك الملكة في هذه اللحظة أن سليمان لا بد أن يكون مؤيداً بقوة و مدد لا طائل من إنكارها و تعلن الملكة إسلامها في نفس تلك اللحظة.
حتى نهاية القصة السعيدة تؤكد على عظمة الملكة بلقيس فهزيمة الملكة لم تكن هزيمة عسكرية بل كانت هزيمة فكرية إن جاز لنا التعبير. فسليمان لم يرسل لها الجيوش لتدميرها و قومها بل أرسل لها رسائل للتأمل و التفكرو هدم ثقتها العمياء بما اعتادت عبادته. سليمان خاطب الملكة في نقطة قوتها و هي قوة بصيرتها و ذكاؤها. فهي الملكة المعتادة على فهم و تحليل ما يجري حولها. لذلك ألجمها سليمان الحجة و هز عروش إيمانها الباطل عندما فاجأها لدى وصولها قصره بما لم تستطع تفسيره هذه المره.فما كان لها إلا ان أعلنت إسلامها. و أعقل العقلاء هو من لا يتمسك بالباطل و إن طال العهد به. تلك هي قصة الملكة القرآنية و قصة حكم المرأة للرجال في كتاب لايذكر إلا أحسن القصص. و الله أعلم.
للمزيد يمكن مراجعة كتابي الأكاديمي المنشور في عام 2019 في أمريكا
https://www.amazon.com/Decoding-Egalitarianism-Quran-Retrieving-Lexington/dp/1793609896