ما الفرق بين إبليس و الشيطان في القرآن؟
تجمع كل مدارس التفاسير القديم منها والحديث على إعجاز التعبير اللغوي في القرآن. فما الفرق بين استخدام لفظي (إبليس) و (شيطان) في القرآن؟ التدقيق في الإستخدام اللغوي القرآني يبين أن القرآن يطلق اسم إبليس كاسم علم على المخلوق الذي تمرد على الله و رفض السجود لآدم عند خلقه في الجنة السماوية. و يطلق إسم شيطان على إبليس في رحلته الأرضية و اللتي بدأت بإغوائه لآدم و زوجه في جنتهما الأولى و التي كانت جنة أرضية لا سماوية و كما بينا في كتاب
On pain and suffering: A Qur’anic perspective
فإبليس لم يخاطب آدم و لو مرة بل طُرد من الجنة السماوية التي خُلق فيها آدم فور عصيانه. و معركة الإنسان مع الشيطان بدأت على الأرض لا في السماء. فإبليس و الذي توعد الله بإغواء آدم و ذريته بدأ بتفيذ وعيده حال وصول آدم إلى الأرض. و لا يجوز الخلط الشائع بين التسميتين إبليس و شيطان. فالشيطان و ليس إبليس هو من أغوى آدم حين صور له الشجرة المحرمة على أنها شجرة الخلد و لو كان آدم في الجنة السماوية لما خشي الموت أصلا! الجنة السماوية التي خُلق فيها آدم و التي سيعود إليها من صلح من ذريته يستحيل ان تكون الجنة الأرضية التي عصى آدمُ فيه ربه. لنتفكر في الوقفات القرآنية التاليه:
أولا: و كما أشرنا فإن الجنة السماوية دار خلود و لو كان آدم فيها حين وسوس له الشيطان لما خاف الموت أصلا.
ثانيا: الجنة السماوية دار نعيم و تكريم لا دار إختبار و امتحان. الأرض هي دار الإمتحان و لا إمتحان كالإلتزام بما أمر به الله و الإبتعاد عما نهى عنه. و لو كان آدم في جنة سماوية حين عصا ربه لما حرم الله عليه أي شي. ففي الجنة لا يُحرم المؤمن مما يريد و لا يُمتحن بصبر عما يشتهي.
ثالثا: من حق آدم في الجنة أن ينال كل ما يشتهي بدون استثناءات أو قيود.و كما يؤكد القرآن في وصفه للجنه. و حرمان الثمرة التي اشتهاها آدم عذاب لا يليق بنعيم كنعيم الجنه.حرمان آدم من الثمرة التي أحب لا يليق بنعيم الجنة السماوية. فلو أن رجلا أُعطي كل نساء الأرض و حُرم من المرأة التي يحب لاستغاث من تلك الجنة كما يستغيث أهل النار من النار.
رابعاً: القرآن أشار في قصة خلق آدم في الجنة السماوية إلى الحكمة من خلقه و هي إرساله إلى الأرض خليفة. فحكمة الله في استخلاف آدم في الأرض و ليست خطيئة آدم هي سبب وجودنا على الأرض.
خامساً: الإعلان الإلهي خصص الأرض موطنا لآدم لحظة خلقه و قبل أي معصيه. فالقرار الإلهي( إني جاعل في الأرض خليفة) سبق معصية آدم. فالأرض كان معدة مسبقاً و مهيئة لإستقبال خليفة الله على الأرض منذ خُلق و قبل أن يعصي الله فيها.
سادساً: إبليس في تمرده على الله أشار إلى يوم البعث. هذه الإشارة قبل معصية آدم تأكيد على أن الخطة الربانية المتضمنة إرسال آدم إلى الأرض ليحيى فيها و يموت فيها و يبعث فيها سبقت معصية آدم على الأرض.
سابعاً: لا بد من التنبه إلى أن القرآن يطلق لفظة ( جنة) على الجنة السماوية و على أي بستان أرضي. لذلك من السهل الخلط في القرآن بين المشاهد التي تنتمي إلى قصة خلق آدم في الجنة السماوية و المشاهد التي تنتمي إلى معصية آدم في الجنة الأرضية. الدليل الوحيد الذي يمكّننا من فرز و تمييز القصتين كما بينتُ في إجتهاد سابق هو تسمية إبليس و الشيطان . ففي كل المشاهد التي تنتمي إلى خلق آدم في الجنة السماوية يستخدم القرآن اللفظ (إبليس) و في كل المشاهد التي تنتمي إلى قصة عصيان آدم في جنته الأرضية يستخدم القرآن اللفظ (شيطان).
ثامناً: لا بد من الإنتباه إلى أن لفظ اهبطوا في ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ ) ( البقرة : 38) لا تعني الهبوط من السماء إلى الارض بل قد تعني مثل (اهْبِطُوا مِصْرًا ) ( البقرة: 61) الذهاب من مكان إلى مكان آخر.
تاسعاً: في الآية 18 من سورة فاطر نقرأ (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ). و في هذا تناقض مع إلزام ذرية آدم بعقوبة ألحقتها بهم خطيئة أدم! آدم أُلزم مغادرة الجنة الأرضية التي كانت معدة له و لزوجه فقط و كانت عقوبته عقوبة فردية انتهت بموته.
عاشراً: من صفات جنة آدم الأرضية أنه لا يظمأ فيها و لا يضحى. الحماية من حرارة الشمس بوافر من ظلال الأشجار دليل قطعي على ان آدم كان على الأرض حين أكل من الثمرة المحرمة.
و خلاصة القول وجوب التمييز بين قصتين قرآنيتين يمكن الفصل بينهما من خلال تتبع المشاهد التي تستخدم اللفظ إبليس و هي تابعة لقصة خلق آدم في الجنة السماوية. و قصة معصية آدم في جنته الأرضية و التي تستخدم اللفظ شيطان .
القصة الاولى هي قصة خلق آدم. تبدأ هذه القصة بإعلان الله تعالى النية الإلهية لنفخ روحه في آدم لإرساله خليفة في الأرض. و يتبعها الطلب الإلهي من الملأ الأعلى السجود إعلاناً للإذعان للإختيار الإلهي بتفضيل آدم على الملائكة و على إبليس باختياره خليفة لله على الأرض. إبليس و الذي رفض الإمتثال استعلاء و استكباراً طُرد من الجنة السماوية فوراً. و بطرد إبليس الفوري توعده بالإنتقام من آدم و ذريته تنتهي القصة الاولى و هي قصة خلق آدم في الجنة السماوية. دار الخلد التي سيعود إليها فقط من صلح من ذرية آدم.
القصة الثانية تبدأ باستخلاف آدم على الأرض. آدم بدأ رحلته الأرضية في جنة أرضية أعُدت خصيصاً له و لزوجه. و يبدأ مسلسل الإستخلاف و الذي سيمر به آدم و ذريته من بعده بالإمتحان الأول. و يطلب الله من آدم الإمتثال لأمره بالإبتعاد عن شجرة حرمها عليه. يضعف آدم بتأثير من وسوسة الشيطان و يأكل من الثمرة المحرمة و تتبعه زوجه في ذلك. و يعصف بهما شعور بالندم و الخزي. و و يطردان من جنتهما الأرضية. و لكن و على خلاف الشيطان يستدركان و يستغفران لذنبهما و يظهران الندم و التوبه. في هذه اللحظة يتوجه الخطاب الإلهي إلى آدم و زوجه بالمغفرة و إلى بني آدم بضرورة توخي الحذر من الشيطان و العودة إلى الله بدوام الإستغفار والتوبة و هو الدرس الأهم و العبرة الأعظم في هذه القصة. و الله أعلم
للمزيد يمكن مراجعة كتابي الاكاديمي المنشور في أمريكا
On Pain and Suffering: A Qur'anic Perspective (Lexington Studies in Islamic Thought) Paperback – April 8, 2024