خلافات زوجية؟ خطة قرآنية للإصلاح بين الأزواج
لا يخلو عش الزوجية من منغصات تكدر بين الحين و الآخر صفو ( السكينة) و هي و كما بينا في مدونة :(و اضربوهن: نفي شبهة تحريض الرجال على ضرب زوجاتهم عن القرآن الكريم) الهدف الأسمى للزواج. و قد جاء التوجيه القرآني بخطة مؤلفة من مرحلتين:
المرحلة الأولى تخاطب المرأة حصراً بتوجيهات لإتباعها و كما نقرأ في سورة النساء في الآية 128:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
الآية و كما هو واضح تخاطب الزوجة و توجه إليها مجموعة من النصائح لإتباعها في حالة مبكرة من الخلاف. في هذه الحالة و كما هو بين يكون الخلاف محصوراً بين الزوجين. قد لا يتجاوز الخلاف شعور الزوجة بالضيق و الخوف أو حتى الإهمال. هذه المرحلة إذن مرحلة وقائية إستباقية يُوصى بها قبل وقوع المشاكل لا بعد استفحال امرها. يوجه الهدي القرآني الخطاب في هذه الآية إلى الزوجة على وجه الخصوص و كما هو واضح في ( و إن امرأةٌ). فالمرأة بطبيعتها هي الأكثر حساسية و الأسرع في التنبه لأي منغص أو تشويش يشوب صفو علاقتها بزوجها. القرآن يخاطب الزوجة و ليس الزوج إبتداءً بضرورة التحرك في حال أحست بخوف من نشوز أو إعراض. و تتجلى دقة البيان القرآني في التفريق بين تململ المرأة و قلقها بل و تضررها من نشوز زوجها و إعراض زوجها. فما هو الفرق بين نشوز الزوج و إعراضه؟ النشوز و كما يبن القرآن هو إتيان فعل ينافي و يجانب فعل الآخرين. ففي سورة المجادلة تشير الآية 11 إلى فعل الإرتفاع عن الأرض باستخدام الفعل (نشز) و بالمثل يشير النشوزإلى أي فعل يختلف عن المألوف أو المتوقع
.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
فالرجل الناشز إذن هو رجل يخطئ في حق زوجته أو في حق عائلته أو حتى في حق نفسه بفعل شئ مجانب للصواب. و يترك القرآن و على عادته التعبير مجملا و عاما ليتيح ما لا نهاية له من الإحتمالات لمعنى كلمة نشوز الرجل و التي يمكن أن تنطبق على كل مكان و في أي زمان. فما يعتبر اليوم لائقا مقبولا قد يعتبر معيباً شائناً غداً. و ما يعتبر مقبولا في مجتمع معين قد يعتبر مرفوضاً في مجتمع آخر. بالإضافة إلى النشوز يأتي القرآن بإبداع لا يليق إلا بخطاب إلهي و ينبه إلى سبب آخر غير نشوز الزوج قد يدفع بالزوجة إلى الخوف و الضيق و الضرر .هذه المرة يشير القرآن إلى إعراض الزوج. و الإعراض غير النشوز كما سنبين.
ففي الآية 29 من سورة يوسف يوجه العزيزُ النبي يوسف إلى الإعراض عن الأمر الذي دار بينه و بين زوجته و هو ما فسره الكثيرمن المفسرين بترك الكلام فيه وتناسيه وعدم ذكره لأحد
يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين
فالزوج الناشز هو زوج يفعل ما يغضب الزوجة أو يؤذيها. هو زوج يتجاوز الخطوط الحمراء في تعامله معها. أما الزوج المعرض فهو المهمل المقصر في فعل ما تحب و تريد و إن لم يتجاوز الحدود وإن لم يخطئ في حق أحد. فالإعراض دون النشوز. إلا أن تبحر القرآن الإحترافي لا بل المعجز في سيكولوجيا المرأة يتجلى في الإعتراف بالإعراض لا بل و تمييزه عن النشوز كسبب من أسباب فشل التواصل العاطفي في الزواج. فالمرأة و على عكس ما يعتقد كثير من الرجال لا تتأذى فحسب مما يفعل الرجل بل قد تتأذى بما لا يفعل.و قد يضيق صدرها بما لا يقول زوجها أكثر بكثير من ضيقها بما يقول. يجهل كثير من الرجال أثر الإعراض على حياتهم الزوجيه. و يجهل الأكثر المفعول السحري لتكرار كلمات الغزل و المديح و الشكر و الإمتنان. فالمرأة و التي تعشق بأذنها قد تصل إلى حد من الضيق يدفعها إلى الزهد في حياتها الزوجيه إن طال إهمال الزوج و تجاهله و إعراضه حتى إن كان ذلك الإعراض غير مقصود و غير مقرون بسوء نيه. الرجل المشغول دوما عن مشاعر زوجته و إحتياجها إلى التواصل العاطفي قبل الجسدي مذنب في نظر زوجته وإن لم يقبل الإعتراف بذنب.و المرأة المُهملة من قبل زوجها تعيش وحدة لا يؤنس وحشتها كل مشاغل العالم. و الأنثى التي لا ترى جمالها في عين زوجها بائسةٌ وإن اشتهاها كل رجال العالم.القرآن و في هذه الوقفة الصريحة ينبه الرجال إلى خطر الإعراض و يتوجه إلى المرأة بضرورة الخروج عن صمتها و التوجه إلى شريكها أولا بالقول (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا). فالخطوة الاولى إذن هي الحوار الزوجي و مصارحة الزوج. هذه الخطوة قد تبدو بديهية للوهلة الأولى إلا أن واقع الحال يثبت العكس. ففي كثير من الحالات تصارح الزوجة إحدى صديقاتها أولا أو اختها أو أمها أو حتى زميلاتها بما تكره من زوجها و النتيجة سيل من النصائح يعافر الغث منها السمين. و في أحوال أخرى يجهل الزوج حتى وجود أو تراكم تلك المشاعر السلبية عند زوجته حتى تصل بالمرأة إلى مرحلة الخرس الزوجي .في معظم حالات الإعراض تبدأ الحالة بسيطة لا تتجاوز مشاكل عابرة في التواصل و التعبير الصادق عن النفس أو حتى ترتيب الاوليات إلا أن تراكم هذه المشاكل هو و مع الأسف ما ينهي صلاحية الزواج العاطفية سنوات طويلة قبل أن يطلق الإنفصال أو الخيانة أو الزواج الثاني أو حتى الطلاق رصاصة الرحمة على ما تبقى منه.لذلك يبدأ القرآن بتوجيه رسالته التحذيرية إلى المرأة أولا و التي لا بد لها من أن تكاشف زوجها أولا بما يقض مضجع سعادتها و لا تتجاهل صوتها الداخلي أو حدسها النسائي إن أنذرها بشئ من النشوز أو الإعراض.
يعترف القرآن بمشقة المهمة -و هو ما يجعل معظم الزوجات تحجم عن مواجهة الزوج بما تخاف- بالقول (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ). فالنفوس المجبولة على الأنانية بطبيعتها تكره الإعتراف بالخطأ و في كل مكاشفة بين زوجين معركة لا تخلو من الإتهامات المتبادله و التي لايمكن تجاوزها إلا بالتذكير بصعوبة المهمة و ضروروة التحلي بشجاعة الإعتراف بالخطأ حيناً و التجاوز و العفو أحياناً. و في الحقيقة يحاول معظم الأزواج تجنب المكاشفة و المصارحة خوفاً من صعوبة بل ومن عواقب مواجهة النفس و الآخر. إلا أن تجاهل المشاكل في الحياة الزوجيه لا يزيد نار الخلاف إلا تأججاً و لا يزيد الزوجين إلا تورطاً فيها. لذلك يقوم الهدي القرآني و بعد التذكير بطبائع النفوس البشرية المجبولة على الأنانية بتزويد كل زوجين بزاد طريقهم الوعرة و ما من زاد مثل التذكير بالإحسان و تقوى الله ( وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا). فوحده من يلتزم الإحسان نهجاً يتجاوز عن سيئات و هفوات من أخطأ بحقه ووحده من يستذكرتقوى الله يتورع عن إتهام زوجه أو زوجته بما ليس فيه.
المرحلة الثانية:
كنا قد تحدثنا في المرحلة الأولى عن خلاف زوجي لا يتجاوز ما يستطيع الأزواج معالجته. إلا أن بعض الحالات تتجاوز هذه المرحلة. في هذه الحالة يتوجه الخطاب القرآني لا إلى الزوجين و الذين استحالت الحياة بينهما بل إلى المجتمع بضرورة التدخل لإستعادة السكينة المفقودة و تقريب وجهات النظر. يأتي هذا التوجيه في الآية 35 من سورة النساء.
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)
الخطاب موجهه و كما نقرأ في الآية 29 من سورة النساء إلى ( يا أيها الذين آمنوا). في هذه المرحلة يتجاوز الخلاف ما يستطيع الحوار الزوجي التصدي له. فقد يفتقر بعض الأزواج و الزوجات إلى المهارات التواصليه اللازمة لمناقشة و حل ما يعصف بحياتهم من أزمات. في هذه المرحلة يوصي القرآن بضرورة التدخل الخارجي. الحل شبيه بما يعرف اليوم بالإستشارات الزوجية المتخصصة. الحل الثوري في مجتمع القرن السابع أوصى بتدخل عائلي يتم بإجتماع ممثلٍ عن الزوجة و ممثلٍ عن الزوج. فبعيداً عن المشاحنات و تبادل الإتهامات يمكن إستئناف النقاش من حيث توقف.إلا أن نجاح المفاوضات الزوجية في هذه المرحلة و كما يبيّن القرآن بشفافية لا متناهيه مشروطٌ بحسن إختيار المفاوضين و حسن نواياهما بل و عزيمتهما على إنهاء الخلاف.( إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا). فتوفيق الله في هذه المهمة مقرونٌ و مشروطٌ بإرادة الإصلاح. في كثير من الأحيان و للأسف يكون التدخل من قبل الأهل سلبيا و لا يفضي إلا إلى مزيد من المشاكل و السبب غياب النية الصادقة في الإصلاح. في كثير من الأحيان تُستبدل المعركة الزوجية الأصلية بين الزوجين بمعركة أكثر تأججاً بين المفاوضين بالنيابة عن الزوجين و السبب إختيار خاطئ لمن لا يحسن التفاوض أو لمن لا يتمنى للزوجين الإستمرار. ففي هذه المرحلة لابد من توخي الحذر و الحيطة و التأني في إختيار من يمثل الزوج و الزوجة و الإبتعاد عن الإستماع إلى كل حاقد و شامت يظهر الود و يخفي و العياذ بالله الرغبة في خراب البيوت. و الله أعلم.
للمزيد يمكن مراجعة كتابي الأكاديمي المنشور في عام 2019 في أمريكا
https://www.amazon.com/Decoding-Egalitarianism-Quran-Retrieving-Lexington/dp/1793609896